لم يكن مستغربا ذلك التطور الثوري الهائل الذي حدث على وسائل الإعلام بمختلف اتجاهاتها وأشكالها التقليدية في كل أرجاء المعمورة، وتحديدا خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فتلك التغيرات كانت نتيجة طبيعية لما يطلق عليه اليوم بمصطلح العولمة العابرة للقارات أو ثورة المعلومات الرقمية ، وهذه الأخيرة بالطبع كانت نتاج طبيعي آخر للتطور الالكتروني والتكنولوجي الذي حدث في مجتمع ما بعد الصناعي انعكست كل تلك التحولات التكنولوجية والالكترونية المتسارعة سلبا وإيجابا على حياة الدول والشعوب، لامست حياة الإنسان اليومية من مأكل ومشرب وملبس، - أي – أنها اخترقت طريقة تفكيره وثقافته العامة، وتوغلت في تطور مسيرة الأمم وشؤونها الداخلية وسياساتها الخارجية، الأمر الذي دفع العديد من دول العالم التي تنبهت لذلك التغيير الى مواكبة تلك التحولات بتغيير سياساتها الرجعية والقديمة، وبطريقة تجعلها تتكيف مع تلك المتغيرات العالمية المتسارعة .وبعبارة ابسط (فان التكنولوجيا الجديدة غيرت كتل بناء السياسة العالمية، وسوف يتعين على سياساتنا أن تتكيف لذلك بطريقة مناسبة، فإذا ركزنا على القوة الصلبة للدول والأمم فقط، فسوف تفوتنا الحقيقة الجديدة، ونفشل في إحراز تقدم لمصالحنا ومثلنا وقيمنا)، حيث انه بات من الاستحالة بعد الآن ان تتمكن الدول والحكومات والأنظمة في مختلف أنحاء العالم، من السيطرة على تدفق سيل المعلومات القادمة من الخارج، أو ان تستطيع بطريقة فعالة أن تحتوي الثقافة الرقمية الجديدة التي أطلقتها الشبكة العنكبوتية الانترنت وبمعنى آخر، ستجد اغلب الحكومات في جل أنحاء العالم نفسها متأخرة ومتخلفة كثيرا عمن سواها، في حال لم تتنبه الى حقيقة ان أسلوب المركزية القديم في إدارة الدولة وتسيير شؤونها الخارجية والداخلية قد أكل عليه الزمان وشرب ، وتلك هي الحقيقة التي تؤكدها ملايين الحواسيب العملاقة وشرائح السيليكون التي استبدلت أطنان الأوراق، فبات احتواء تدفق المعلومات على الانترنت وقنوات الستالايت الفضائي وحجب المواقع أو المنتديات أو المدونات وغيرها من وسائل تبادل البيانات والمعلومات ضربا من ضروب الخيال أو الجنون يقول دوغلاس ماكغري في كتابه أرخبيل السيليكون بان (حركة المرور على شبكة الانترنت ظلت تتضاعف مرة كل مئة يوم على مدى السنوات القليلة الماضية، ففي سنة 1993م – أي قبل 16 سنة تقريبا – كان هناك نحو خمسين موقعا على الشبكة في العالم، أما بحلول نهاية عقد التسعينيات – أي بعد 6 سنوات فقط – فقد زاد العدد الى خمسة ملايين موقعا – أي ما يقارب 65 ألف موقعا شهريا – أي بمتوسط 23.. موقعا يوميا)، فكيف بالعدد اليوم ونحن نلج العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين – أي – في العام 2001م ؟لذا فان هذا الطرح سيتناول تحديدا إحدى تلك التطورات التي حصلت في هذا الجانب من الانقلاب الثوري في تقنية الإعلام الرقمي الحديث، ونقصد ولادة ما يطلق عليه اليوم بـ المدونات الشخصية أو بالبلوغرز ، وهي اختصار لعبارة log أو مدونة الكترونية ،، ويطلق عليه كذلك بـ والتي تعني باللغة الانجليزية مدونة مصغرة، وتعتبر هذه الأخيرة اليوم واحدة من أهم روافد تبادل المعلومات والمعرفة والتواصل العابر للقارات والتعبير عن الرأي والرأي الآخر عبر شبكة الانترنت العالمية، والتي أتاحت للكثير من شرائح المجتمع وخصوصا فئة الشباب، تلك المساحة الشاسعة من الحرية المعرفية والتعبير عن الرأي في مختلف المجالات التنموية، والتي كانت قبل ذلك معرضة للقمع والحجب والغلق من قبل مقص رقيب النظام المركزي البيروقراطي ظهر التدوين الشخصي الأول، او ما يسمى بالمدونات الشخصية بالولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا مع مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي، حيث (بدأت مؤسسة سنة 1994 بإنشاء أول موقع يمكن تصنيفه كمدونة، وان كانت التسمية لم تظهر إلا سنة 1997 م، حيث عرفت هذه الفترة ظهور خدمات تدوين مثل في سنة 1997، و سنة 1998م، ثم سنة 1999 م)، وقد وفرت بعض الأحداث العالمية كالحرب على أفغانستان نتيجة أحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001م، والحرب على العراق موردا خصبا لتطور ظاهرة المدونات الفردية والجماعية عبر الشبكة العنكبوتية من الناحيتين الكمية والكيفية، وخصوصا تلك المدونات التي تهتم بالسياسات والعلاقات الدولية وحقوق الإنسان .وتشير الكثير من الدراسات والإحصائيات الرقمية التي قامت بها العديد من المؤسسات والمواقع العالمية الكبرى ذات الاختصاص، وتحديدا تلك التي تستضيف تلك المدونات في العالم كمؤسسة - أونيكس وبلوهوست وتكنورايت، وبلوغ هيرالد، وموقعي جوجل والياهو، و وهي على سبيل المثال لا الحصر، وان كانت تلك الدراسات والإحصائيات غير موثقة بالطبع – لكثرة عدد المدونات الشخصية التي تولد كل دقيقة في مختلف أنحاء العالم، ما يؤكد بان متوسط عدد المدونات التي يتم إنشاءها وتفعيلها كل سنة في مختلف أنحاء العالم يصل الى أكثر من 5 ملايين مدونة مفعله ، منها بالطبع ما يكتب له الاستمرار ومنها ما يتوقف بحسب ظروف صاحبها . 14 فيما قدر موقع الاستضافة بلوغ هيرالد عدد المدونات في العالم حتى نهاية العام 2006م – منذ مطلع التدوين في تسعينيات القرن الماضي - بأكثر من 1.. مليون مدونة، وأذاع تقرير المبادرة العربية لانترنت حر رقما نسبيا - غير مدقق علميا - لعدد المدونات العربية سنة 2006 م حيث أحصاها في 4. ألف مدونة)، فيما تقدر مواقع عربية متخصصة أخرى عدد المدونات العربية اليوم بأكثر من مليون ونصف مدونة تم تفعيلها حتى نهاية العام 2..8م، ولكنها بالرغم من ذلك – وللأسف الشديد – فهي لا تتجاوز حتى الآن ما نسبته التقديرية من 7 – 9 % من المدونات العالمية .وتحتل اللغة اليابانية الصدارة من حيث عدد المدونات، تليها المدونات باللغة الانجليزية، ثم العربية، وقد قُدّر مجموع إيرادات تلك المدونات بـ 36 مليون دولار في عام 2008 م، ويتوقع أن تبلغ إيرادات المدونات من الإعلانات التجارية بحلول عام 2001.م حوالي 2.. مليون دولار حسب شركة بي كيو للاستشارات الأمريكية، والحقيقة أن التحول الهائل الذي طرأ على هيكلية تلك المدونات، وتحديدا في العالم العربي يبشر بالخير، حيث يتوقع ان ترتفع نسبة المدونات العربية خلال العشر سنوات القادمة الى أكثر من 15% من نسبة المدونات العالمية، رغم ان تلك النسبة قد لا تعني الكثير في ظل وجود الشريحة الأكبر من الشباب بالنسبة لسكان العالم في العالم العربي، تحتل بينها المدونات المصرية المرتبة الأولى عربيا ثم السعودية ثانيا فالعراقية ثالثا، أما خليجيا فتاتي السعودية في المركز الأول من حيث عدد المدونات، ثم تليها المدونات الكويتية ثانيا والملاحظ الآخر بالإضافة الى الكم الهائل من تلك المدونات، فهناك الكيف الذي تطورت من خلاله تلك المدونات الشخصية خلال العقد ونصف الماضيين، حيث تحولت من مدونات شخصية الى أخرى يطلق عليها بالمدونات الجماعية (إذ لم يعد الاتصال الحديث موقفا سلوكيا ينقل فيه مصدر رسالة الى مستقبل بهدف التأثير فيه، وإنما أصبح موقفا تبادليا يتبادل فيه شخصان او أكثر المعلومات والأفكار، ولم يعد الاتصال الجماهيري يسير وفق نموذج من فرد إلى أفراد عديدين، بل أصبح يسير وفق نموذج من أفراد عديدين الى أفراد عديدين، أو ما يتعارف على تسميته بالتفاعلية الجمعية) – انظر في هذا الشأن على سبيل المثال لا الحصر– مدونة المجال السيبيري والقوانين الأخرى، للورنس ليسيغ وتعد الدراستين التخصصيتين اللتين أعدهما كل من مركز بيركمان للإنترنت والمجتمع التابع لجامعة هارفارد الأمريكية، والتي نشرتها صحيفة ذي ناشونول الإماراتية في سبتمبر 2009م، وكتاب العرب المخفيون — كتالوج تحليلي للعرب الذين لا نعرفهم والذين ليسوا إرهابيين – للكاتبة الايطالية باولا كاريدى من أهم وابرز المراجع الحديثة التي يمكن اللجوء إليها في هذا الشأن، حيث تناولت تلك الدراسات بالتفصيل والدقة ظاهرة تطور المدونات العربية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.وقد أشارت الكاتبة الايطالية باولا كاريدى في حوارها مع جريدة الشرق الأوسط في يناير2008 إلى أنها خصصت فصلا كاملا عن المدونين والتدوين العربي عبر الانترنت بوصفه موجة جديدة يعيشها العالم العربي، ومن ضمن ما جاء في كتابها البحثي القيم قولها: (إن المدونين العرب يستخدمون الانترنت في محاولة منهم لتغيير الواقع المعاش، كما يحاولون إظهار الوجه الإنساني للعالم العربي في مواجهة النمطية الأوروبية عن الشرق المسلم، فهؤلاء المدونون يدركون تماما كيف ينظر الغرب إليهم ويحاولون تغيير هذه الرؤية عبر استخدام لغة محتليهم السابقين، فهناك عشرات المدونات العربية التي تستخدم اللغتين الإنجليزية والفرنسية على شاشة الانترنت) وقد شبهت حركة التدوين العربية اليوم بتلك التي كان يعيشها الشباب الأوروبي في شرق أوروبا قبل عام 1989 م إبان الحكم الشيوعي، وتحديدا قبيل سقوط وانهيار الاتحاد السوفيتي، رغم عدم وجود الانترنت في ذلك الوقت.شهادة أخرى في هذا المجال أشارت إليها صحيفة ذي ناشيونال الإماراتية في سبتمبر 2..9 في عرضها لدراسة أنجزها مركز بيركمان للإنترنت والمجتمع التابع لجامعة هارفارد الأمريكية حول خريطة التدوين العربي ( الدراسة منشورة على موقع ميدل ايست اون لاين، وهدفت الدراسة إلى التعرف على الموضوعات التي تتعامل معها المدونات العربية في منطقة الشرق الأوسط، ومدى علاقتها بقضايا المنطقة السياسية والدينية والثقافية والإعلامية والشؤون الدولية.الأمر الآخر الذي نود الإشارة إليه عربيا في هذا الشأن، هو التطور المتزايد من الناحية التنظيمية المؤسساتية في حركة تطور المدونات العربية، و- بمعنى آخر – ظهور الاتحادات والجمعيات والمؤسسات والنقابات والأسر الرقمية في العالم العربي التي تحتضن أولئك المدونين، وتقوم على رعايتهم وتوجيههم وحمايتهم القانونية والفكرية، وتنقسم تلك التجمعات البشرية للمدونين على شبكة الانترنت الى قسمين قسم محلي يتم من خلال تجميع تلك الفئة داخل القطر الواحد كاتحاد المدونين المصريين او الليبيين او المغاربة على سبيل المثال لا الحصر، وآخر عربي يتم من خلاله احتضان تلك المجموعات القطرية في اتحاد عربي عام، ويعتبر اتحاد المدونين العرب الذي تأسس في العام 2006 م، الأكبر والأكثر تنظيما حتى الآن لتلك الشريحة من المثقفين العرب، على أمل ان نجد لاحقا الاتحاد الخليجي للمدونين. ومن ابرز ما تحقق في هذا الشأن على الإطلاق، وكنتيجة مباشرة لتطور حركة التدوين العالمية بوجه عام، والعربية على وجه الخصوص، وغيرها من وسائل الاتصال الرقمي عبر شبكة الانترنت، هو كسر حاجز الرقابة الرسمية الحكومية على وسائل نقل المعلومات وتداولها في شتى المجالات السياسية منها والثقافية والاقتصادية، وزيادة الاتصالات العابرة للقومية والحكومية، ونشوء أكبر للقوى النابذة أو الطاردة للمركزية الإعلامية .مما سهل تدريجيا القدرة على نقل الخبر والمعلومة في جزء من الثانية والى أماكن لم يتخيلها أحد في يوم من الأيام، وتحديدا تلك المعلومات التي طالما رفضت بعض الأنظمة الكشف عنها، وخصوصا في مجالات كالحريات والحقوق المدنية ومن على شاكلتها، وهو ما دفع بعض الأنظمة – وللأسف الشديد – الى إغلاق تلك المدونات وقمع أصحابها، وزج البعض منهم في المعتقلات والسجون، وذلك بهدف تغطية مواطن الفساد والتحايل والمعلومات التي صنفها بعض المتسلطين الحكوميين بالسرية والسرية جدا 14ومن خلال ما سبق ذكره، نستطيع ان نؤكد وبما لا يدع مجالا للشك، بأنه وخلال السنوات القليلة القادمة، ستشكل تلك المدونات تحديدا من جهة موردا خصبا لمرتادي الانترنت وعالم الشبكة العنكبوتية، بحيث ستتقلص كثيرا المساحة السسيولوجية بين المجتمعات والشعوب في شتى بقاع العالم، وسيتمكن الكثيرون من الحصول على المعرفة والمعلومة خلال وقت قصير، كما أنها ومن جهة أخرى، ستشكل التحدي الأكبر لبعض الأنظمة القمعية، التي ترفض انسلال السيطرة من بين يديها، أو ترفض التنازل عن لعب دور المركزية في شؤون إدارة سياساتها الداخلية والخارجية، وبالتالي فانه بات على تلك الحكومات (أن تتخلى عن بعض الحواجز المانعة لتدفق المعلومات التي – كانت تاريخيا – تحمي المسئولين من النظرة الخارجية المتفحصة) وهكذا
أ. محمد سعيد الفطيسي
أ. محمد سعيد الفطيسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق